يقول الشاعر العربي القديم :
وما أنا بعلام الغيوب لكنني
أرى بلحاظ الرأي ما هو واقع
لست أدرى ما الذي جعلني ادير ريموت التلفاز على قناة أحرار 25 في هذه الساعة المتأخرة من الليل لاتابع فيها تسجيلا رأيت فيه امرأة محجبه في قرية ميت ناجي بالدقهلية تخرج مع طفلتها لتشارك في سلسلة بشرية تطالب بعودة الشرعية ضمن فعالية دعى اليها التحالف الوطني لدعم الشرعية - رغم سوء الاحوال الجوية - حيث أظهرت الصورة ان هذه الفعالية بدأت في الصباح الباكر وكانت حبات الندى ماتزال تتساقط على هذه الوجوه النضره ، وكان هتاف حنجرة هذه المرأة يضاهي في سطوعه شعاع الشمس الوليد .
على الفور عقدت مقارنة بين هذه المرأة التي خرجت رغم اعتقال اباها وقتل اخاها والتحرش وربما اغتصاب اختها في اقسام شرطتنا الباسلة ، وبين هذا الضابط الذي يتبختر فوق مدرعته متوشحا بخوذته المانعة وفي يده سلاحا دفعنا ثمنه نحن الشعب بصبر السنين ليطلق رصاصاته يمينا ويسارا على المتظاهرين العزل حتى اذا ما نفذت ذخيرته ترك المدرعة لمصيرها المحتوم على يد هؤلاء المتظاهرين ، وسألت نفسي : ما الذي يمكن ان يجعل هذه المرأة الأسطورة التي خرجت بطفلتها في هذا البرد الشديد ولم تستلم لاغراء دفء بطانية مستعملة كالتي هلل لها الاعلامي الدنيء في قناته الفلولية ، ما الذي يمكن ان يجعلها تتراجع الآن فيما عقدت العزم عليه ؟
ما الذي يجعلها تتوقف عن الهتاف قائلة : مصر اسلامية
ثم عُدت لاسأل نفسي : ربما كان خروج هذه المرأة لاسترداد امتيازات مالية قدمها اليها حكم مرسي ، وليس خروجا لاسلام ارادت ان تستعيد امبراطوريته من اندونسيا حتى المحيط الاطلنطي ؟
فأجبت على نفسي : و أي ثمن يمكن أن يساوي رصاصة تخترق جسد طفلتها الصغيرة أو حتى شمة غاز تحرق رئتيها الرقيقتين ؟
بالطبع المقارنة بين هذه المرأة الأسطورة وبين الضابط الذي يحاول قهر ارادتها لم تكن في صالح هذا الضابط الذي لو أنصف لتوارى طويلا يبكي ندما على اسمه الذي تضمنه كشف المكافآت نظير الاشتراك في مجزرة رابعة ، وهو ايضا الذي لو انصف لادرك انه لولا ضعفه لما رضخ قائده الأعلى لاسياده في البنتاجون ، وهو أخيرا الذي لو فكر وتدبر ، لأدرك ان خشية جنرالات البنتاجون الحقيقية فقط من هذه المرأة ، ومن ما تمثله بصمودها .
ربما يقول قائل : ان هذا الحديث العاطفي لهو درب من دروب هوى النفس ، وان عربة مدرعة واحدة ثبت عليها رشاش متعدد اميركي الصنع - كالذي تدربت عليه في مدرسة المشأة اثناء فترة تجنيدي في سلاح المُشاه الميكانيكي - لكفيل بفض هذه السلسلة البشرية التي تتغزل في بسالتها بإسراف الشعراء !!!!
ولهذا القائل أسرد بضعة معلومات عله يتيقن مما تيقنت منه :
هل تعلم ان الحرب العالمية الثانية التي استمرت منذ العام 1939 حتى العام 1945 شارك فيها أكثر من 100 مليون جندي وتسببت في قتل 50 مليون انسان رغم استخدام الاسلحة الاشد فتكا جوا وبرا وبحرا وانتهت بالقاء قنبلتين ذريتين شهيرتين .
هل تعلم ان عدد ضحايا حرب فيتنام التي استمرت منذ العام 1957 وحتى العام 1975 هو مليون ومائه الف فيتنامي وفيها استعرضت الولايات المتحدة قوتها التقليدية ابتداء من قذائف النابالم الحارقة وحتى جندي المارينز المدجج بأعتى الاسلحة .
هل تعلم ان العرب جميعا فقدوا في حرب الاستنزاف التي استمرت ثلاث سنوات 25 الف شهيد في اقصى التقديرات بينما قتلوا من اليهود 800 فرد في اقصى التقديرات ايضا .
هل تعلم ان النزيف اليومي في سوريا الحبيبة اسفر عن سقوط 100000 الف شهيد من المعارضة رغم استخدام بشار المجرم لترسانته العسكرية كاملة ، حتى الاسلحة الكيماوية لم يضن بها على عشاق الحرية والكرامة .
والخلاصة ، ان خيار الاسراف في استخدام القوة صوب المتظاهرين السلميين الذي يقدر عددهم بالملايين بهف ابادتهم جميعا يحتاج لترسانة اسلحة تفوق تلك التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية من أكثر من 100 مليون جندي وايضا يحكم ذلك محاذير شديدة الخطورة بالنسبة لقادة الانقلاب وهي :
اولا : ان كنا وبكل اسف ومراره رأينا بعض افراد قوات المظلات النخبوية تطلق النار على شعبها من المصريين الساجدين فإن القوام الاساسي لجيش الشعب من قوات المشاة والمدرعات لا يمكن ان يتورط في فعل ذلك .
ثانيا : ان قوة النيران الحقيقية لقواتنا البرية يطلقها المجندين وهم من صلب نسيج هذا المجتمع ولا اعتقد انهم يستجيبون لقادتهم ان هم طلبوا منهم اطلاق النار على ذويهم .
ثالثا : لا يوجد جيش يُسرف في اطلاق النار على شعبه الا وتحدث فيه انشقاقات ، وفي ظل الكثافة السكانية للمدن المصرية فإن هذا السيناريو كابوسي للانقلابيين والنموذج السوري ليس ببعيد .
رابعا : ستواجه الدول الخليجية المارقة الداعمة للانقلاب ضغوطا شعبية هائلة في ظل تصاعد معدل القتل في مسلمي مصر مما يُنذر بعواقب وخيمه تمس استقرار عروشهم ، وقد بدت البوادر في بعض الدول مثل الكويت .
خامسا : ان النظام العالمي الذي ترأسته امريكا بعد اعلان الامم المتحدة العالمي لحقوق الانسان لن يستقر ومذابح من هذا النوع تحدث في مصر قلب العالم حيث ستبور بضاعتهم المتمثله في الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان لاسيما المرأة والطفل ولطالما سوقوها لشعوبهم التي تأكدت من سلمية هذه الثورة .
سادسا : ان حربا اهلية على الطراز السوري من شأنها احداث خللا يقينا في الملاحة العالمية عبر قناة السويس وهو ما لا ترغبه امريكا في ظل بوادر انفراجتها المالية بعد أزمة الكساد العالمي في 2008
سابعا : ان تورط الجيش المصري في حرب أهلية شاملة قد يضعف قبضته في سيناء مما يعرض قلب اسرائيل لخطر تعلمه جيدا من جماعات تتحين الفرصة للثأر من اسرائيل .
ثامنا : ان كفاءة الامن المصري باتت موضع تساؤلات وقد رأينا استمرار خروج بعض الممنوعين من السفر من مصر الى الدوحة
ولهذا كله وفق تقديري فإن فكرة الاسراف في استخدام القوة ضد المتظاهرين العُزل عن طريق قوات الجيش لن يحسم الأمر للانقلابيين الذين فشلت خطتهم في دفع الشعب المدني للاقتتال الداخلي وقد رأينا كيف تنقل فضائياتهم وصحفهم رسائل تحفيز لقطاع المؤيدين للانقلاب من الجهلاء والطائفيين لقتل انصار الشرعية نيابة عنهم ، فما عاد لديهم بعد هذا الفشل الا جهاز الشرطة الذي اختار لنفسه عن رضا عجيب هذه المكانه التي لن يغفرها التاريخ له ، وان صمود هذا الجهاز المدعوم بالبلطجية بعد مضي سته اشهر كاملة من المواجهات أصبح الآن محل قلق وشك عبر عنه الصليبي ساويرس في تصريحه الخبيث .
وبهذا تصبح ميزان القوة الحقيقية في صراع الارادات يميل صوب المرأة المحجبة التي اذهلتني بصمودها امام كل هذه الضغوط فما ازدادت الا قوة وثبات سيسطره التاريخ لها باحرف من نور ، كما ان التسريبات الاخيرة تثبت ان جهاز الشرطة ذاته مخترق والا كيف خرج كشف اسماء الضباط الذين شاركوا في مذبحة الساجدين في رابعة .
وأخيرا فإن هذا التحليل غير مرتبط بفترة زمنية تلزم لاندحار الانقلاب وازالة آثاره وان كنت اعتقد ان ماما امريكا قد امهلت الانقلابيين الى موعد الاستفتاء وهذا الاستنتاج مبني على امرين :
1- تصريح وزير الداخلية بان الاستفتاء مسألة حياة أو موت
2- تصريح البيت الابيض ان امريكا ستدرس امكانية اعادة المعونة العسكرية لمصر بعد الاستفتاء على الدستور
والمتوقع أنه اذا لم ينجح هذا الاستفتاء في منح شرعية مزيفة للانقلابيين ، ستحاول امريكا الحاق بآخر عربة في قطار الثورة المصرية ، ليس فقط كي لا يقوم الثوار بمحاصرة سفارتها وآخذ رهائن كما فعل الايرانيين في عام 1979 وقد ادركوا انها المخطط الحقيقي للانقلاب ومذابحه ، ولكن كي تضمن لها موطيء قدم تستطيع من خلاله الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في مصر والتي بات اطفالنا يدركونها جيدا من فرط ثرثرتهم بها ليل نهار .
والحق أقول لكم انها ايضا ستسعى لذلك لتشويه نقاء الثوب الابيض لثورتنا الاسلامية بأمل تعديل مسارها بما يخدم فتنتها تلك الزانية التي مازالت تجلش على عرش هذا العالم واسكرته بخمرها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق